انتقادات ألمانية مفاجئة لإسرائيل- هل هي تحول حقيقي أم تكتيك سياسي؟

المؤلف: عبد الكريم أهروبا08.31.2025
انتقادات ألمانية مفاجئة لإسرائيل- هل هي تحول حقيقي أم تكتيك سياسي؟

في تطور لافت ومثير للدهشة، انتقد المستشار الألماني فريدريش ميرتس، بشكل علني وصريح، العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. جاء هذا النقد خلال مشاركته في مؤتمر re:publica الرقمي ببرلين في 26 مايو/أيار 2025، حيث عبّر عن قلقه العميق إزاء الأوضاع الإنسانية الكارثية في القطاع المحاصر. وأشار إلى أنه لم يعد قادراً على فهم الغاية المرجوة من الحملة العسكرية الإسرائيلية، مؤكداً أن حجم المعاناة التي يتكبدها المدنيون الفلسطينيون "لم يعد مقبولاً أو مبرراً بذريعة مكافحة إرهاب حماس".

إن توجيه انتقادات علنية لإسرائيل من قِبل أعلى سلطة في ألمانيا يعتبر سابقة في السياسة الألمانية الرسمية، ويمثل تحولاً مفاجئاً يثير الكثير من الدهشة والتساؤلات. هذه هي المرة الأولى منذ اندلاع الحرب المدمرة في غزة التي يجرؤ فيها مستشار ألماني على الإعلان صراحة بأن أفعال الجيش الإسرائيلي قد ترقى إلى مستوى انتهاك القانون الدولي الإنساني، وأنه لا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها بعد الآن.

ولكن كيف يمكن فهم هذا التحول الدراماتيكي في الموقف السياسي الألماني؟ وما هي المحفزات الحقيقية وراء هذه الانتقادات الخجولة التي بدأت تتردد على ألسنة بعض السياسيين الألمان في الآونة الأخيرة؟ وهل تشير هذه النبرة المستجدة في الخطاب الرسمي حقًا إلى بداية منعطف حاسم في السياسات الألمانية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟

طوال الأشهر التسعة عشر الماضية، حافظت الحكومة الألمانية على دعمها الثابت والراسخ لإسرائيل، قولاً وفعلاً. فمنذ بداية الحرب المأساوية على غزة، كرست برلين مواردها المادية والمعنوية الهائلة لتقديم دعم كامل وغير محدود لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.

لم يقتصر هذا الدعم على الاستمرار في تزويد إسرائيل بالأسلحة الألمانية، أو الإصرار على نفي ارتكابها جرائم حرب – من خلال التذرع بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد كل مجزرة – بل امتد ليشمل تسخير الآلة الدبلوماسية الألمانية لتجميل صورة إسرائيل في المحافل الدولية، وذلك عبر تبرير جرائم الحرب في غزة وتبني الرواية الدعائية للحكومة الإسرائيلية. تجسد ذلك في تصريحات وزيرة الخارجية السابقة، أنالينا بيربوك، التي دافعت، في الذكرى السنوية الأولى لأحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، عن قصف إسرائيل للمدارس والمستشفيات، مؤكدة أمام الأمم المتحدة أن المنشآت المدنية قد تفقد حصانتها، ويمكن بالتالي استهدافها – حسب منطق الوزيرة – لمجرد أن "الإرهابيين يستغلون وضعها الحمائي".

بالتالي، كيف يمكن أن نأخذ تصريحات المستشار الألماني على محمل الجد، ونصدق أنه بات فجأة يهتم بانتهاكات القانون الدولي الإنساني، ويعتبرها خطاً أحمر يدفع ألمانيا – على الرغم من مسؤوليتها التاريخية – إلى اتخاذ موقف واضح تجاه إسرائيل؟ هذا هو نفسه الذي حرض، بالأمس القريب، عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، الحكومة الألمانية على عدم الامتثال لها، ودعا، في 24 فبراير/شباط 2025، بعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، نتنياهو لزيارة ألمانيا، وأكد أنه سيجد الطرق والوسائل المناسبة للالتفاف على قرار المحكمة، والسماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة ألمانيا دون التعرض للاعتقال.

إن القانون الدولي الإنساني لم يُنتهك من قبل إسرائيل فجأة، بل دأبت على انتهاكه بشكل ممنهج منذ بداية الحرب. فبعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أطلقت إسرائيل سلسلة من التصريحات الموثقة والمثيرة للجدل، كان أبرزها ما صدر عن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق الذي دعا قواته علنًا إلى التنكيل بالفلسطينيين، وقطع الماء والغذاء والوقود والكهرباء عن غزة، والتعامل مع سكانها باعتبارهم "حيوانات بشرية"، بالإضافة إلى تصريحات سموتريتش وبن غفير وباقي المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية الذين لم يكفوا عن إطلاق تصريحات بغيضة تظهر احتقارهم الصريح للمعايير الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي.

كما أن نية جريمة الإبادة الجماعية المبيتة لدى الحكومة الإسرائيلية كانت واضحة على الأقل منذ 28 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، حين استشهد نتنياهو، خلال خطاب موجه إلى الجيش الإسرائيلي، بآية من التوراة تدعو إلى إبادة العماليق: الرجال والنساء والأطفال والرضع، ولم تستثنِ من الإبادة حتى البهائم. وكانت رسالة نتنياهو من اقتباسه التوراتي واضحة لا تحتمل التأويل. ولهذا كان هذا التصريح من جملة ما استندت إليه جنوب أفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية التي قدمتها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.

إن هذا التغيير الطفيف في خطاب الحكومة الألمانية تجاه إسرائيل لا يعدو كونه محاولة لتضليل الرأي العام، ولا يعكس بالضرورة تحولاً جوهرياً في الموقف السياسي الألماني. فهو لم يأتِ نتيجة قناعة ذاتية حقيقية، بل جاء كمحاولة استدراك فرضتها تطورات إقليمية ودولية متسارعة، جعلت من الموقف الألماني، القائم على الدعم المطلق وغير المشروط لإسرائيل، موقفًا معيبًا ومعزولًا حتى داخل محيطه الأوروبي والغربي.

فالموقف الألماني المنحاز لإسرائيل ليس عاملاً متغيراً كالمواقف السياسية الأخرى التي تخضع لميزان القيم أو مبدأ الربح والخسارة، وإنما هو – على الأقل حتى الآن – عامل ثابت فوق القيم، وعقيدة راسخة في سياسة ألمانيا ما بعد العهد النازي، وعنصر مهم، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في عملية التكفير عن جريمة الهولوكوست.

وفي هذا السياق فقط، يمكن فهم القرار الذي اعتمده بالإجماع المجلس الاتحادي الألماني – الذي يمثل الولايات الألمانية الست عشرة – في 23 مايو/أيار 2025 بمناسبة الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين ألمانيا وإسرائيل، والذي أكد فيه – بعد 19 شهرًا من الحرب المدمرة على غزة – أنه لا يزال يقف بحزم إلى جانب إسرائيل، ويعلن التزامه بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس.

ولم يشر المجلس الاتحادي الألماني ولو بكلمة واحدة إلى الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني، وإنما اكتفى فقط بدعوة الحكومة الألمانية إلى مواصلة العمل مع شركائها "من أجل خفض التصعيد في المنطقة، والضغط على جميع الأطراف المشاركة في النزاع لاحترام القانون الدولي، ولا سيما القانون الدولي الإنساني".

وهذا ما يفسر أيضاً التناقض الصارخ بين التصريحات النقدية الصادرة عن المستشار الألماني تجاه إسرائيل، وغياب سياسة فعلية تترجم تلك التصريحات إلى واقع ملموس، مثل تعليق صادرات الأسلحة أو الانضمام إلى موقف فرنسا وبريطانيا وكندا الذين هددوا باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل إذا لم توقف الحرب الشرسة التي تشنها على قطاع غزة.

وإذا كانت الدبلوماسية الألمانية قد نجحت إلى حد ما خلال العقود الماضية في "إمساك العصا من الوسط" عبر إحداث نوع من التوازن النسبي بين ما تصفه بـ "مسؤوليتها التاريخية" تجاه إسرائيل، وبين التزاماتها الأخلاقية المعلنة تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان، فإنها بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول قد تخلت فعلياً عن هذا التوازن الدقيق، لتبني انحيازاً مطلقاً لإسرائيل على حساب ما كانت تتشدق به من القيم، بل وحتى المصالح الإستراتيجية طويلة الأمد لألمانيا نفسها.

إن هذا الموقف الثابت قد أدخل ألمانيا في نفق سياسي مظلم، وبات يعطي اليوم – كما يرى إيلان بابيه – انطباعاً بأن الدولة الألمانية قد تضل الطريق مجدداً، وتبتعد مرة أخرى عن مبادئ الإنسانية. وما يثير القلق وخيبة الأمل، بحسب بابيه، هو أن ألمانيا كدولة لم تستوعب حتى الآن بشكل كامل وصادق الدروس الأخلاقية التي كان ينبغي أن تستخلصها من تاريخها المأساوي والمظلم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة